لعلي أبدأ أسطري هذه بسؤالي .. هل تؤمن بحب الأماكن والجمادات ؟ إن كانت إجابتك بنعم فستتفهم كثيراً أسطري المقبلة، وإن كانت إجابتك بلا .. فآمل أن تتفهم ..
بالنسبة لي أؤمن بحب الأماكن وعشقها، وقد لا أبالغ إن قلت بأن عشق الأماكن قد يفوق عشق الأشخاص، ليس بالضرورة أن تكون حالة العشق هذه مرتبطة بمدينة أو بلد ، قد تكون مجرد كرسي في مقهى أو مطعم.
في حال أن دخلتُ مقهى أو مطعماً للمرة الأولى أحب أن أتعرف على زواياه وجلساته ثم أختار الجلسة التي أعتقد بأني سأرتاح فيها أكثر، بالطبع ستقرأ أفكاري وستقول بأن هذه الجلسة أو الكرسي سيكون مطمعي الأول في زيارتي المقبلة .. عشق صامت لا تخاطب فيه، ولعل من اقترب مني كثيراً يعرف هذه الخاصية فيني .. قد تكون سلبية أو إيجابية.
لذلك عندما كنت أبحث عن المدينة المناسبة في أمريكا التي سأقضي فيها ستة أشهر لتطوير لغتي الانجليزية .. كنت حذراً في الخيارات والبحث والتقصي، كنت أقول لأصدقائي أن الموضوع أشبه مايكون بمشروع خطبة أو زواج، ووفقني الله بأصدقاء أعزاء أولهم الصديق عبدالرحمن السلطان الذي بصم على ترشيح سانتا باربرا بالعشرة كما يقولون .. كانت إجابته وكأنه يقول بأن هذه المدينة هي المدينة التي فصلت تفصيلاً لطلباتك .. هادئة جداً جداً .. مطلة على المحيط الجميل .. صغيرة وأنيقة .. تحيطها سلسة جبال خضراء مليئة بالغابات العذراء كما يقولون .. وسكانها يعدون من أرقى سكان هذه القارة .. لذلك لم أتعجب كثيراً حينما بحثت قبل السفر طلباً للمزيد من المعلومات حول هذه المدينة حينما أجد وصف (الجنة) لها .. منهم من يقول جنة كاليفورنيا ومنهم من يقولون جنة أمريكا.
الحياة وأذواق الناس بشكل عامٍ مختلفة، لذلك من الطبيعي أن أجد من يصفها بالمدينة المملة او المدينة التي (لاشيء) فيها .. ومن أجد من يتذكر ويعرض لي صوره الجميلة في المدينة، لذا كانت مشاعري قبل التوجه مختلفة .. لا أدري إلى أي التيارين أميل خفت أن أكرهها وخشيت أيضاً أن أعشقها !
مضى الشهر الأول بل وحتى منتصف الثاني وأنا لازلت لا أملك شعوراً تجاه المدينة لأمور عدة من بينهم عودتي لمقاعد الدراسة بعد غياب سنوات ومنها طريقة تغير حياتي بأكملها كوني كنت أسكن مع عائلة أمريكية تقيم في منطقة بعيدة عن مركز المدينة (الداون تاون) ناهيك عن أوقاتي المتلخبطة لارتباطي بمواعيد انطلاق وتحرك الباصات، فلو رغبت في الذهاب للداون تاون مثلاً قد يستغرق مني الوقت نحو 40 دقيقة لكثرة توقف الباص ومروره على اكثر من محطة، منتصف الشهر الثاني قررت الاستقلال والخروج إلى شقة خاصة جميلة لا تبعد عن شاطئ البحر سوى نحو 80 متراً فقط ولاتبعد عن الداون تاون سوى ربما 5 دقائق مشياً على الأقدام لأكون بجانب كل شيء في المدينة .. من المطاعم والمقاهي وصالات السينما وحتى معهد اللغة الصغير.
بعد مضي شهران تطورت لغتي .. على الأقل أصبحت أكثر جرأة على محاورة الآخرين والدخول في حوارات وتكوين علاقات مختلفة، أصبح شعوري بأني منتم للمدينة بشكل يكبر يوماً بعد يوماً .. أتذكر خطواتي وأنا عائد إلى شقتي الصغيرة بعد أن قضيت وقتاً ممتعاً مع أصدقائي .. كنت أنظر للرصيف وأرفع رأسي متأملاً النجوم الجميلة فوق الشاطئ ، دونما تفكير كنت أعلم بأني عاشق يكبر حبه يوماً بعد يوماً.
أخرج للصباح كل يوم عند الثامنة والنصف تقريبا والضباب الصباحي الجميل للتو قد انقشع، درجة الحرارة لاتزيد عن 25 درجة والسحاب النقي يرسم أحلى مايمكن تخيله في سماء زرقاء .. وجوه باسمة على الطريق حتى أصل معهدي بعد نحو 15 دقيقة مشياً، أتذكر جملة يكررها صديق عندما يراني سعيدا في صباح ما بمدينة الرياض حيث يسألني (مصبح في وجه مين اليوم ؟ ) ، كنت أرسل له رسالة عبر جوالي .. أنا سعيد اليوم يافلان لأني صبحت في وجه سانتا باربرا.
يقولون لا تشعر بمعنى الحب والوله إلا حينما يغيب حيببك عنك، هنا لا يمكن أن يحدث لأن الحبيبة هي مدينة فلا يمكنها أن تغيب .. لكني أحسست بذلك المفهوم حينما بدأت بفكرة استئجار سيارة بين حين وآخر لزيارة مدن أخرى، لا أبالغ حينما أقول بان العادة جرت عندما تقضي إجازة جميلة وتستمتع فيها مع أصدقائك أنك تتجهم حين العودة لمنزلك لأنك تريد قضاء وقت أكثر في (السياحة)، لكن الحال هنا كان مختلفاً .. ولم يكن شعوري وحدي بل وحتى أصدقائي .. كنت نفرح ونعد الأميال المتبقية بحماس لأننا سنعود إلى الجنة.
يوماً بعد يوم كنت أتحدث مع سكان مدن أخرى خاصة من لوس انجلوس في نهايات الاسبوع حيث يكثر السياح في المدينة، كانوا يأتون في إجازات نهاية الاسبوع لقضائها في المدينة .. أتذكر كيف أجابني أحدهم بأنني محسود بالعيش في مدينة كهذه وهو يبذل قصارى جهده لكي ينتقل إليها، لذلك لم أعد مستغرباً من كثرة انتقال المشاهير إليها حتى أصبحت تعرف بمدينة الأثرياء ففيها عشرات ممثلي ومشاهير هوليود وإعلاميين معروفين أيضاً .
المدينة لا يمكن أن تسحر شخصاً يأتيها كسياحة لأن الزائر سيجدها مملة وبلا فعاليات، لكنها ستسحر من يعيش فيها فترة طويلة ولكي تعرف مضمون هذه الفكرة اسأل أي مواطن أمريكي من كاليفورنيا عن هذه المدينة وتأمل كيف يجيبك.
في ليلتي الأخيرة بالمدينة يوم السابع عشر من سبتمبر الماضي، قررت أن أقضيها في طاولتي الثابتة بمحل الآيسكريم الرائع (بنكبيري) مع عدد من الأصدقاء السعوديين وحين اقترب منتصف الليل حتى طلبت من صديقي العزيز هناك – علي المشعل – أن نمشي في الشارع الجميل (ستيت ستريت) الذي أقطعه صبحاً ومساء أكثر من 4 مرات باليوم الواحد، وقبل الوصول لشقتي كنت أعلم بأن (الساعة قضيت) وعلي الرحيل في صباح الغد .. وسأغادر المدينة التي عشقتها ، كنت أتحدث مع علي عن مشاعري في تلك اللحظة ولم أكن أتخيل بأني سأبكي ودموعي تنزل لأني سأغادر مكان .. مجرد مكان جامد .. كنت أنظر أسفل قدماي وأتأمل حتى الرصيف .. لا أذكر كيف أكملت الحديث لكني متيقن بأن صاحبي بكى أيضاً رغم أنه سيبقى لوقت أطول كونه سيدرس الماستر .
صباح اليوم التالي في مطار لوس انجلوس، حينما كنت أقص كرت صعود الطائرة كان الموظف يملاً البيانات .. سألني : أين كانت مقر إقامتك .. أجبته : سانتا باربرا ، أجابني : أووه كنت في الجنة لماذا تتركها؟ .. وقفت مدققاً في سؤاله .. كيف يمكن لشخص أن يغادر الجنة ! قلت له : غادرتها بألم لكني وعدتها بأنها ستكون مكان إجازتي السنوية حتى أمل منها أو هي تمل مني لأني لن أمل أبداً ..
بعد مضي ثلاثة أسابيع تقريباً على عودتي لازال سحر المدينة يسيطر علي، احتفظ بالصور في جهازي الجوال وفي كمبيوتري .. أتأمل الشوارع والمطاعم وأماكني المفضلة .. الشاطئ الجميل والطقس الربيعي الرائع ، هل تعرف شعورك حينما يوقظك أحد من نومك وانت تحلم بحلم جميل لا تود الاستيقاظ منه ؟ .. ذلك هو شعوري بالضبط ، أتذكر الأحداث والمحلات والوجوه والشوارع كأنها حلم .. حلم استمر ستة أشهر وانتهى بقصة حب .. بين رجل ومدينة
مشاهد فيديو :
– فيديو للداون تاون خاصة السينما القديمة
– هذا الشخص كان موجوداً في الشهر الأول من وصولي ثم اختفى ولم يظهر بعد ذلك
– من ذكريات الحريق التي تم إخلاء نحو 25% من سكان المدينة وحينها هربت إلى لوس انجلوس 🙂
صور :
لم أجد حلاً أفضل من وضع رابط لأي صورة من المدينة في موقع فليكر (اضغط هنا لمشاهدة الصور)
ذكرت في تدوينة سابقة بأن التغيّر الوحيد الذي لحظته على نفسي عقب تجاوز سن الخامسة…
ربما لا تعلم وأنت تقرأ أسطري هذه، بأني أمضيت هنا وسط هذه الصفحات الإلكترونية بالمدونة،…
مايجمعني بصوت عبدالكريم عبدالقادر مختلف عن أي فنان آخر، سنواتي الأولى في القيادة كانت سيارتي…
بعد فترة تقارب 10 أعوام من السكنى في wordpress.com ، أعود مغرماً إلى عالم المواقع…
من حسن حظي أني حضرت المونديالات الثلاث التي شارك فيها المنتخب 2006 - 2018…
View Comments