Categories: فكر وثقافة

أحلام .. السيدة العبقرية

لست من نوعية القراء عشاق الروايات ، ولكني أحرص على قراءة عددٍ منها بين حين وآخر من باب الإطلاع على فنون أدبية أخرى خاصة الرواية التي تحظى بردود جماهيرية وإعلامية واسعة ، قرأت كل ماخطه غازي القصيبي وكنت حتى وقت قريب أعتبر (العصفورية) رواية مجنونة كبطلها وكاتبها ، .. وعشت أيام طوال مع هشام العابر في ثلاثية تركي الحمد التاريخية وقراءات متنوعة في روايات عالمية بدأتها بالبؤساء وجان فالجان .
حتى وقت قريب كنت أعتبر أن الروايات مثل المسلسلات الأمريكية .. تأخذ وقتاً طويلاً في القراءة والتركيز والمتابعة كما هو الحال وأنت تتابع مسلسل (لوست) الشهير ، بينما يكفي قراءة كتاب واحد أو مشاهدة فيلم واحد عن عشر روايات أو مسلسلات ، أصبحت حقيقة لا أميل لها خاصة وأنها الفن السهل .. كل من عرف أن يكتب سطرين ألف رواية وأخص بالذكر هنا الروايات الهزيلة التي يكتبها عدد من الصحفيين آخرها رواية سمر المقرن ورواية أخرى موغلة في السطحية كتبها صحفي رياضي .
لكن هذه المرة الوضع اختلف ، ففي رحلتي لدبي مطلع الشهر الماضي كانت الترتيبات سريعة بشكل لم يجعلني أجد وقتاً لاختيار الكتاب الذي سيرافقني في الطائرة أو على كراسي الانتظار بالمطارات ، توجهت إلى مكتبة شقيقتي التي لازالت تدرس في عامها الأخير بالجامعة .. وطلبت على وجه السرعة أن تجهز كتابين أو ثلاثة من مكتبتها (على ذوقها) .. وكأن حالي لا يختلف عن شخص يتوقف عند مطعم قبل أن يقفل في آخر الليل ويطلب أي ساندويتش تبقى لديه .
الشاهد أن أختي قدمت لي ثلاثة كتب أحدها الرواية التي ملأت الدنيا ضجيجاً (ذاكرة الجسد) للكاتبة أحلام مستغانمي ، قلت في نفسي (يوريكا) – ماغيرها- ، سمعت وقرأت عشرات التقارير حول هذه الكاتبة والاتهامات التي كانت تتردد بأن هناك من يكتب لها .. قلت في نفسي ستكون هذه الرواية رفيقتي في السفر .
بدأت في التصفح الأولي وأنا في صالة الانتظار بمطار الرياض .. الصفحات الأولى كتبت باحترافية غير مسبوقة وبإثارة تنبئ عن رواية من العيار الثقيل كما يقولون ، خلال دقائق وجدت نفسي أسبح في بحر صفحاتها .. بكل صدق .. أسرتني .. واصلت القراءة في الطائرة ومرت الرحلة وكأنها مشواري اليومي إلى مقر عملي ، وصلت الفندق عند العاشرة واتجهت للغرفة مباشرة لمواصلة قراءة الرواية .. لست من مدمني القراءة كما قد يعتقد البعض لكن هذه الرواية تسحر تسحر تسحر .
للمرة الأولى أيضاً لم أعهد بنفسي القراءة ببطء وتأني .. كنت أقرأ الروايات بسرعة رهيبة باحثا عن تفاصيل الحكاية ، لكن مع هذه الرواية كنت أقرأ الصفحة مرتين وأحياناً ثلاث مرات لما فيها من فكر وطرح وتعابير فكرية وأدبية خلاقة .. خلاقة .
بدأت قراءة الصفحات في مطار الرياض وواصلت المتابعة في فندق أتلانتس بدبي .. وختمت صفحاتها أمام أحد أجمل شواطئ العالم في موريشيوس .. رواية بهذا المستوى لا يمكن قراءتها إلا في أماكن نخبوية تليق بقدرها .
لا أقول بأن أحلام مستغانمي كاتبة متمكنة أو روائية خلاقة .. أقول بأن هذه السيدة عبقرية عبقرية عبقرية .. وأنا أقرأ الحكاية لم أكن أدهش لقصص خالد مع حبيبته أو مذكرات زياد أو قصص حسان .. كنت أقول في داخلي وأنا أقرأ الرسائل المبطنة التي تكتبها أحلام بأن أفكاراً مثل هذه لايمكن لكاتب عادي أن يفكر فقط في مجرد طرحها .. بل يجب أن تصدر من شخصية استثنائية بكل ماتحمله الكلمة من معنى .. أتتذكرون أبيات المتنبي وكيف أصبحت حكماً وأمثال تردد حتى يومنا الحالي .. أحلام كانت تكتب جملاً مثله .. جمالاً إبداعية فكرية لن يسبق لها مثيل .
أتدرون لم هذه السيدة عبقرية .. لقد كانت الرواية على لسان رجل .. على لسان خالد الذي يحارب ويشارك في المعارك .. ويتغرب .. ويعشق .. ويغار .. ويكره .. ويحب .. ويتألم .. بكل عنفوان الرجل وانفعالاته .. أساليب وكلمات لن تكتب إلا على يد شخصية عبقرية كأحلام .
دعوني أقدم لكم بعضاً من الأمثلة لبعض الجمل العظيمة والتي بالمناسبة وجدت أن شقيقتي أيضاً وضعت دونها خطاً بقلم الرصاص :
@ إذا صادف الإنسان شيء جميل مفرط في الجمال .. رغب في البكاء .
@ كنتِ فارغة كإسفنجة ، وكنت أنا عميقاً ومثقلاً كبحر رحت تمتلئين بي كل يوم أكثر
@ الروائي الناجح هو رجل يكذب بصدق مدهش ، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقية .
@ إن الإنسان ليشعر أنه في عنفوان الشباب .. عند نزول المطر .
@ الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى ، وعندها لا تتصافح ، بل تتحول إلى تراب واحد
@ تقول واصفة على لسان البطل خالد عندما اعتقد بأن شخصاً أحب إمرأة كانت تجلس بجانبه ( في تلك اللحظة .. شعرت أن شحنة من الحزن المكهرب وربما الحب المكهرب أيضاً قد سرت بيننا ، واخترقتنا نحن الثلاثة ) – تعبير إبداعي لا مثيل له –

أقول بأن الجزائر وحتى وقت قريب كانت تفتخر بأنها قدمت للعالم شخصاً استثنائياً في لعبة كرة القدم (زين الدين زيدان) ، الآن جاء من ينسف هذا النجاح .. جاءت إمرأة من الصفوف الخلفية .. كانت مجرد معدة برامج في إذاعة محلية بالجزائر لتتقدم وتقتحم عالم الرواية لتتصدر المركز الأول .. وأقول المركز الأول بلا أي منافسة .. بل أن البقية الذين يمكن أن نقول بأنهم ينافسونها لازالوا في المراتب من العاشر وما دون .
سأبحث عند عودتي للرياض عن تفاصيل هذه السيدة وسأقرأ كل ماطرح عنها .. وسأبدأ في الغوص بين كنوزها وكتبها وقراءة كل ماخطته يمينها .
الآن .. يجب على كل من يفكر بأن يصدر رواية .. بأن يخجل ( ويختشي على دمه) – كما يقولون- .. فلا رواية تستحق القراءة بعد روايات أحلام .
أعذروني إن كنت مبالغاً في طرحي .. لكني والله ندمان بأني لم أقرأ لها طوال سنوات ، ومندهش حد (اللي مانيب قايل) من أن توجد سيدة عربية لديها هذه القدرة الإبداعية والأفكار الخلاقة والأسلوب الأدبي الذي أدهش نزار قباني (زاتوه) .
تعظيم سلام لأرض الجزائر التي أنجبت هذه العقلية وهذا الجنون العبقري وتعظيم سلام لأي أرض تجاور الجزائر .. لأنها قريبة من موطن (أحلام العبقرية)

admin

View Comments

  • كل عام وانت بخير

    ذاكرة الجسد عمل جميل واسطوري ، يدرس كقصه في بعض الدول ،وكان سينتج فيلم من بطوله نور الشريف عام 2001 ، لكن تراجعت الكاتبه في العقد مع شركه الانتاج .ربما كان ذلك لصالح الروايه لكي يقراها النخبه لكن اذا حولت الى دراما يمكن أن تخرج مشوه في ا لسينما ، كما حدث في عمارة يعقوبيان لان الروايه بقلم علاءالاسواني ظلمت في السينما

    ابتعت الروايه عام 2003 من معرض الشارقه للكتاب ، وقراتها خلال ليلتين .

    تكتب احلام مستغانمي في اخر صفحه في مجله (( زهرة الخليج )) الاماراتيه

  • اولا ..كل عام وانت بخير ..
    ثانيا .. لما قريت التايتل .. على بالي احلام المطربه .. قلت "عسى ماشر" !!
    فعلا احمد ..
    اوافقك الرأي .. اعتبر احلام تجربه روائية فريدة من نوعيه .. "يونيك " ..
    خصوصا ..ذاكرة الجسد .. أي قلم استطاع أن يكتب الروايه بتلك الروعه ..وأي عقل ستحدث تلك المشاهد !!
    ايضا مقالاتها في زهرة الخليج .. جدا متميزه ..
    شكرا احمد ..

  • الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى ، وعندها لا تتصافح ، بل تتحول إلى تراب واحد

    هذا المقطع اعادني للوراء 9 سنوات مضت جعلتني افتش في مذكراتي لابحث عن خاطرة كتبتها اثر قراءتي لرائعة احلام ، شكرا احمد

  • يسعد صباحك أحمد
    وكل عام وانت بخير ..

    توقعتك قريت رواية من روايات احلام العاطفية حقتنا :)
    عبير واحلام .. تعرفهم !

    رواية ذاكرة الجسد رواية عبقرية ..
    أثارني كتابتها بلسان رجل .. واحسست ان من كتبها رجل !
    أعتقد انها تفوقت في كتابة هذه الرواية ..

    قرأت الثلاثية كاملة ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير ..
    لكن للأسف كانت الذاكرة هي الأولى في القراءة
    وعندما قرأت الفوضى وعابر سرير
    أحسست ان مافي جعبتها قد قالته في الذاكرة .. وأعادت تكراره في الروايتين الباقيتين ..
    .
    .
    عمومآ أحلام كروائية مبدعة لحد الألم ..
    .
    شىء آخر .. عزيزتي Sara‎_‎82 من الظلم لأحلام مقارنة الذاكرة بعمارة يعقوبيان .. رغم الضجة التي أحاطت عمارة يعقوبيان الا انها مجرد رواية تقرأ في 4 ساعات لتنتهي بالحكم بأن الكاتب صحفي .. ليست إهانة أنه صحفي
    إلا أنه كتب أحداثا ولم يكتب فكرآ
    في العمارة ستتذكرين الأحداث إلا انك لن تخرجي باقتباس منها
    في الذاكرة .. من كل حوار أخرج باقتباس .. وبعد كل قراءة للرواية .. أخرج بفهم جديد للنص ..
    .
    أحمد .. يسعدني انضمامك لرابطة المتعطشين لإبداع مستغانمي :)
    على فكرة الجزائر .. عظيمة .. عظيمة جدآ .. أعظم من مجرد قدم لاعب :)
    .
    لكل من يمر من هنا : عيد مبارك وكل سنة وانت طيب ..

  • انا قرأت (فوضى الحواس) واختشيت على دمي مليون مرة :D
    صار عندي نفس الاحساس لما انتهيت من قراءة فوضى الحواس.. مدري له ما قرأت لها من قبل على الرغم من كثرة اللي كتبوا عنها.. والحلو فيها انها كتبت وأبدعت ودخلت قلوب الناس بهدوء وماعملت ضجة زي سمر المقرن (اللي ما تتسماش ولا كأن أحد كتب غيرها!:D)
    لما بدأت أقرأ لعلوان واتشبعت أفكاري برواياته بما فيها من فلسفة وحبكة وطريقة القصة، كتيرين قالوا له انه ما اختلف كتير عن أحلام مستغانمي؛ وبالفعل لما قرأت بعدها لأحلام لقيت نفس الكلام مع تفوق أحلام بمراتب عنه..

    كيف كتب غازي القصيبي? الى الآن ما قرأت له شي وماني قادرة مدري ليه مو بالعته :D >>> مو كأنها حولت الكومنت لتدوينة :$

  • احس ان اكثر الناس ثقافه وعبقريه اهل المغرب العربي.
    احلام تعجبني حتى بشخصيتها جدا جدا مرتبه افكارها
    مميزه جدا
    على فكره
    احلام مستغانمي ولطيفه التونسيه صاحبات الروح بالروح
    وكل الثنتين جدا شخصياتهم يونيك

  • أشاركك الرأي والإعجاب كذلك بهذه الكاتبة "المختلفة" في كل شيء!!
    أهدتني صديقة عزيزة هذه "الرواية" ولم أكن متحمسة جدا لقراءتها.. ولكنني اكتشفت
    بعدها أن هذه "الرواية" ماهي الا كنز لغوي رائع!!

    كل عام والجميع بألف خير،،

  • انت مولي مولي مولي !!!!

    انا دايخ ومنتهي هالحين ولا لي جلد على الكتابة ... فلي عوده ان شاء الله .. وان ما رجعت فالماريه الغفله !!

  • أولا .. كل عام و انت بخير

    ثانياً .. بالنسبة لـرواية " ذاكرة الجسد " .. استغرقت مني شهر أو أكثر لقراءتها لأني بصراحة وجدت أنها تستحق أجواء خاصة وَ نفسية مرتاحة حتى تسمتع بكل حرف وَ عبارة تقرأها لذلك انتهز فرصة " مزاجي الرايق " لإستمتع بها ..

    ثالثاً .. هي ليست كباقي الروايات .. فالروايات الأخرى التي أقرأها أتصور نفسي كأنني أشاهد فيلم .. أعرف كيف ستكون نهايته .. " ذاكرة الجسد " مختلفة بكل معنى الكلمة .. مختلفة لأنها تصور و تصف مشاعر لا يمكن لأي شخص أن يتنبأ ماذا تكون نهايتها ..

    رابعاً .. هي رواية رائعة بكل معنى الكلمة .. لو قدر لي أن أقرأها مرة أخرى حتماً لن أفوت الفرصة

    دمت بود

Share
Published by
admin

Recent Posts

كيف أنقشع من الماضي 🫣

ذكرت في تدوينة سابقة بأن التغيّر الوحيد الذي لحظته على نفسي عقب تجاوز سن الخامسة…

10 أشهر ago

مرحباً 2024

ربما لا تعلم وأنت تقرأ أسطري هذه، بأني أمضيت هنا وسط هذه الصفحات الإلكترونية بالمدونة،…

12 شهر ago

غريب .. شخصية الصوت الجريح الفريدة

مايجمعني بصوت عبدالكريم عبدالقادر مختلف عن أي فنان آخر، سنواتي الأولى في القيادة كانت سيارتي…

سنتين ago

العودة إلى ووردبريس .. مجبراً

بعد فترة تقارب 10 أعوام من السكنى في wordpress.com ، أعود مغرماً إلى عالم المواقع…

سنتين ago

مرحبا 2023

      2022 إحدى السنوات التي مرت بسرعة، وأعتقد أن مرحلة التعافي من كورونا…

سنتين ago

منتخب أفضل مما نتوقع

  من حسن حظي أني حضرت المونديالات الثلاث التي شارك فيها المنتخب 2006 - 2018…

سنتين ago