كان الملهم .. كان الاستثنائي

 

في العام 1990 إبان غزو الكويت، كنت لم أتجاوز الثالثة عشر من عمري بعد وكنت للتو قد وقعت في غرام قراءة الكتب ومطالعة الصحف اليومية، مشهد أخي الكبير في كل ليلة يتكرر أمامي، كان يقتطع مقالاً ليحفظه في ملفاته من الصحيفة الخضراء التي لم أكن أقرؤها لتجاوزها فكر سني الصغير، أعرف حب أخي للقراءة وأثق بأن اهتمامه ناتج عن أن كاتب المقال شخص استثنائي.

حاولت مرة أن أقترب لأعرف الكاتب .. حسناً لقد كان اسمه غازي القصيبي وكان عنوان الزاوية في عين العاصفة، لكني لم أكمل قراءة المقال لأنه كان سياسياً وصعباً على طفل لازال يدرس في الصف الثاني متوسط ، بعدها بفترة أصبحت أتسلل لمكتبة أخي والتي خصص لها غرفة كاملة ، كانت مثل غرفة الكنز وحتى هذا اليوم لا يعلم أخي بأني استغل فترة خروجه لأدخل وأسرق أحد الكتب بين حين وآخر.

يوماً ما وقع نظري لأحد مؤلفات غازي القصيبي .. لمحت الأسم من بعيد وأدركني فضولي في سرقة ذلك الكتاب الذي لم أعد أتذكر عنوانه، لكني أتذكر تماماً أن قصة حب خاصة نشأت بيني وبين مؤلفات القصيبي منذ ذلك التاريخ حتى تمكنت قبل نحو 4 سنوات من قراءة غالبية مؤلفاته .

متيقن بأن اسلوبه كان ساحراً، لدرجة أني كنت أنسخ جزءاً كبيراً مما كان يكتب .. أحاول أن أقلده في تعليقاته وفي نقاطه .. بل في استدراكاته الساخرة حينما يتعرض لموقف صعب، في دراستي للمرحلة الثانوية كنت أقرأ بنهم مقاله في المجلة العربية والتي خصص مجملها لتشجيع الكتاب الجدد واستعراض كتبهم ، لا أعتقد يوماً بأن هناك كاتبُ يقدم جملاً بليغة سهلة بمثل ماكان يكتب حتى أحسست بأن طرحه يمثل مدرسة خاصة أصبحت أعرف المنتمين لها من كتاباتهم .

عملت صحفياً وكانت هناك مناسبات كثيرة كان يتسنى لي رؤيته لو حضرتها، بل أنه زار يوما الجريدة التي كنت أعمل بها وكنت أتوق برهبة بالغة كيف ستكون ردة فعلي حينما أراه فيما لو قام بجولة على المكاتب … ذلك اليوم انتهت زيارته ولم تتم الجولة ، ندمت ندماً شديداً لأني لم أسرق نظرة إلى وجهه عندما كان في مكتب الرئيس.

عمل في وزارة المياه وكنت أنا وصديقي نضرب مواعيدنا المسائية على أن نلتقي بالقرب من مدخل المبنى، كانت مواعدينا متأخرة بلاشك ولكني كنت يوماً أتمنى لو كان القصيبي خارجاً من اجتماع أو نحوه لعلي أراه أمامي ، كنت أقول لصاحبي إحدى إمنياتي هي أن أقبل راسه لأنه أحدث التغير الأكبر في حياتي … جعلني أعشق القراءة والكتابة حتى أن مهارتي المتواضعة هذه أدخلتني بلاط صاحبة الجلالة.

ذلك اليوم قابلته .. نعم قابلته لكنها لم تكن مقابلة تقدير، للمرة الأولى لم يكن بيني وبينه سوى مترين فقط لكنه حينها كان محمولاً على الأعناق ، كنت واقفاً مندهشاً .. هل جاء اليوم الذي أقترب فيه القصيبي، موقف صعب جداً لم أكن أتخيل نفسي بأني سأكون يوماً هنا .. في مقبرة العود ولماذا ؟ .. لكي ندفن جثمان الرجل الذي أحدث التغير في حياتي، بكيت وكنت أتمنى لو أن المقبرة كانت فارغة حتى أصرخ .. المشهد كان سريعاً ..هذا هو أمامي أبناءه يحملونه من سيارة الإسعاف ليوضع في قبره والناس تهلل وتكبر .. بعدها بدقائق صاح مناد .. من يريد أن يحثو التراب على القبر فليتقدم وليجعلها ثلاث حتى يتيح الفرصة للآخرين .. ارتعبت .. ، هل أتقدم ؟ قادتني قدماي دون دليل ولعلي وطأت قبراً بجواره دون أن أدري .. أخفضت رأسي وأحذت أحثو قبر الرجل النقي الطاهر بالتراب .. يا له من لقاء .. وياله من وداع.

طموحي يوماً كان أن أصل لـ10% مما كان يحمله من ثقافة وعلم وقوة حفظ، لكني اليوم وأنا في سن الثالثة والثلاثين من عمري أعلم بأن الوصول لتلك المرحلة صعب جداً خاصة أني تجاوزت مرحلة التأسيس دون تقوية لملكة الحفظ التي تنقصني بشدة، ومن يقرأ رواية العصفورية على سبيل المثال سيعلم يقيناً أن من كتبها شخص غير عادي لا في فكره ولا اسلوبه ولا حتى طريقة تفكيره ، بكل بساطة هو رجل استثنائي جاء ومر وعاش بيننا ثم رحل .. مثل هؤلاء الرجال لا يتكررون .

كل الأيام الماضية وأنا أزور المواقع الالكترونية وأقرأ لأهل تويتر، لا يوجد شخص توفي ووجد هذا الاحترام والتقدير والوفاء من كل الأطياف كما كان الأمر مع غازي .. ولا أعتقد بأن هناك شخص جزم الجميع على نقاءه وحبه لوطنه واحترامه للآخرين كما هو الحال مع غازي .. رحل الحب .. ورحلت الدبلوماسية .. ورحلته الكتابة الساخرة .. ورحل الوفاء .. ورحل المدرس والجامعة الكبرى في الكتابة .