سحر الذكريات الجميلة

 

حالنا غريب مع الذاكرة، أحياناً ينتابني إحساسٌ بأنها تبالغ في عرض تفاصيل الأحداث لدرجة قدرتها على الإبكاء، وأحياناً تحس بأنها تتجاوز بعض التفاصيل الدقيقة التي تتعب في محاولة استرجاعها بلا سبب وكأنها تتقصد أن تغيب عنك تلك التفاصيل.

نشأتي كانت رتيبة ومملة وبلا ذكريات، لذلك لم أتعرف على مفهوم الذكريات الجميلة إلا بعدما عرفت السفر والتنقل من بلد لبلد .. ومن مدينة لأخرى، وأعتقد بأننا في السفر نترك همومنا وأفكارنا البالية ومشاكلنا في أوطاننا ونعتقد بأن إغلاقنا لإجهزتنا الهاتفية يعني أننا انتقلنا إلى عالم آخر، لذلك ترسخ تفاصيل الأحداث الجميلة بالخارج .. الأماكن السياحية المطاعم والفنادق والمقاهي الجميلة.

في بداية رحلاتي كنت حينما أعود من بلدٍ ما أوجه إليه بعض الانتقادات البسيطة، لكني وبعد مرور فترة من الزمن حينما أتأمل الصور التي التقطتها هناك أوقن بأني كنت مجحفاً لأن الذكريات الجميلة أسرتني وجعلتني أمسح كل الأفكار الحزينة، الذكريات الجميلة مثل الفتاة المليحة.. حينما تعجب بها تتناسى كل عيوبها.

كلما تقدمت في السن خاصة حينما تجاوزت سنتي الثلاثين والتي أعتبرها الفارق الأكبر في شخصيتي، أصبحت الذكريات الجميلة أقسى وكأنها تحولت إلى شبح هلامي يحمل مطرقة .. هل يمكن للذكريات أن تبكيك ؟ الآن أقولها نعم إنها تملك قوة جبارة تستطيع أن تسحب دموعك بأدوات خفية حتى تخرج من مقلة عينيك ولو كانت على استحياء .. هذه الذكريات تتغلب دائماً على قوة الرجل وعنفوانه حينما يردد بأن الدموع ليست أمراً يسيراً ولو كانت في مناسبة فقدان قريب أو صديق.

مع مرور السنوات أصبحت أملك بعض الخبرة في التعامل مع الذكريات الجميلة، اقتربت منها أكثر وأكثر حتى يخيل لي أحياناً بأنها إمرأة كبيرة في السن تجلس بجانبنا، في السنوات الثلاث الماضية كنت أركز في المناسبات والسفرات التي كنت أعتقد بأنها ستبقى في الذاكرة، كنت أقول لمن معي (الآن ونحن في قمة سعادتنا .. بعد عودتنا سنتذكر هذه اللحظات الجميلة وسنتحسر عليها .. هذه اللحظة التي أتكلم فيها الآن ستبقى ذكرى سعيدة وسنقول : هل تتذكرون عندما قلت لكم بأننا سنتحسر على هذا الوقت الجميل ) .

تطور الأمر وأصبح البكاء أمراً استباقياً، أصبح الحال وكأنك تريد أن تسبق لحظة الاستمتاع بالذكريات الجميلة ولربما وكأنك تود أن تصيب الذاكرة اللعينة في مقتل .. كأنك ستقول مهلاً الآن سأستمتع بذكرى جميلة أعيشها هذه اللحظة ولا أود أن أتحسر عليها بعد أشهر أو سنوات، هل يمكن أن يتحول الموضوع إلى موضوع خبرة ؟ .. وكأن الحال يحتاج إلى خبرة وتعامل مسبق مع الذكريات الجميلة ؟

هل الذكريات الجميلة تتكرر ؟ .. أقصد لو قصدت مكاناً الآن .. قد عشت فيه ذكريات جميلة رسخت في فكرك ؟ ، بالنسبة لي أنا متيقن بأن الأمر مستحيل إلا في حال أن الرحلة تكررت بنفس التفاصيل .. كأن تقابل نفس الوجوه أو تعيش أحداثاً قريبة من التي عشتها سابقاً .. كأن نقول بأنك درست في مدينة جميلة مع طلاب رائعين .. فيما لو عدت في السنة التي تليها وبقي الأمر على حالها قد أتقبل أن تعيش بذكريات جميلة قريبة من التي عشتها .. لكن في حال تغيرت الأحداث والوجوه وربما الأماكن .. فمن المستحيل أن تعيد الذكريات .. لكن قد تعود بذكريات أخرى ربما لا تكون جميلة.

لذلك هذه الخبرة والسنوات أصبحت الآن أقف في صف من يسافر إلى ذات البلد كل عام، وهو أمرٌ كنت أستهجنه في فترة سابقة كنت أقول بأن العالم مليء بالأماكن الجميلة .. إن كنت حالتك المادية ميسورة لماذا تعود إلى ذات المكان ؟ .. الآن انقلب حالي وأصبحت أقول بأن العودة إلى مكان الذكريات الجميلة هو عين العقل .. لأنك ستريح ذاكرتك وعقلك وقلبك .. قبل جسدك الذي يبحث عن الراحة وعينك التي تبحث عن الأماكن الجميلة.

اليوم أنضممت إلى ركب العائدين إلى الذكريات الجميلة وسأبدأ إجراءات حجزي إلى قريتي الصغيرة المملة (سانتا باربرا) عائداً إليها ربما في يوليو أو اغسطس المقبل .. بحثاً عن الذكريات الجميلة .. سأعود إليها هذه المرة مع زوجتي التي تعتقد بأنني مسحور بتلك البلدة الرتيبة الهادئة وسأعود إليها وزملاء الدراسة الرائعين قد غادروها بعد إنقضائهم من دراسة اللغة .. سأبحث عن الذكريات في كل مطعم ومقهى .. وكل زاوية وشارع .. سأبحث عن الذكريات الجميلة تحت رمال الشاطئ الجميل .. وسأفتش عنها في الغابات المحيطة بها ..

* في مثل هذا اليوم من العام الماضي 2009 وطئت قدمي مطار لوس أنجليس .. ويالها من ذكريات جميلة مبكية .

رد واحد على “سحر الذكريات الجميلة”