الحل هو المخالفات الشخصية

 

من أفضل الأمور التي يعيشها المدون أنه غير مرتبط بصحيفة أو يتبع لموقع الكتروني، لأني ألحظ كل من كتب عن رحلة سفر خارج المملكة إلا ويتلقى الهجوم الذي لا يصد ولا يرد من منطلق (صجيتنا بلندن) .. أو (محد زار أمريكا غيرك كل يوم تكتب)، لذلك مادمت مدوناً أتبع نفسي أولاً وأخيراً سأكتب كل ملاحظتي وسأدون كل أفكاري .. ومن يعتقد بأن ذلك من سبيل التفاخر أو التشخيص .. فأقول له فكر كما تريد واستنتج ماتعتقد .. ببساطة .. ذلك لا يهمني .

عوداً على بدء – إن كنت تقال هكذا فعلاً – فأقول أنا دراستي في أمريكا أنارت فكري أكثر وبينت لي كيف يتقدم العالم ولماذا يتطور، بلاشك أن إقرار النظام بقوة النظام هو أحد أسرار تفوق أمريكا، العامة من الناس يلزمهم النظام في سيرهم وعملهم وحتى طريقة أكلهم .. عندما تتحدث مع العامة فالغالب هو يشابهونا في كثير من الأفكار والآراء بل أحياناً ألمس أن الكثير منهم يتمتع (بسطحية مبالغ فيها) لكنه يعيش بنظام ويعمل بنظام واحترافية بالدقيقة .. هذا سر كبير من أسرار نجاح أي شخص فما بالك ببلد .

من أفضل مبادئ النظام لديهم هو إقرار العقوبات الفردية على الشخص طبقاً (لبطاقته الشخصية) أي بمعنى أن الشخص يغرم بشخصه في حال ارتكاب أي تجاوز مدني وهو نظام مستقل ومتكامل لا علاقة له أبداً بنظام المخالفات المرورية، فعلى سبيل المثال عندما تدخن في مكان غير مسموح التدخين به يقوم أولاً الموظف أو العامل بتنبيهك بذلك وفي حال عدم تجاوزك يتم الاتصال بالشرطة التي يدور أفرادها بطريقة ذكية بين المحلات والمطاعم والشوارع الكبيرة، وحينما يصل الشرطي للمكان ويشاهد المتبلس بالجريمة .. يمنحه المخالفة وأحياناً وهو يبتسم .. وفي حال تكرارها في نفس الوقت تكون المخالفة الأخرى مرتبطة بموعد في محكمة المدينة وعادة الموعد لا يتجاوز الشهر .. حيث تحال القضية للقاضي ليحكم فيها على المخالف بساعات عمل اجتماعية مثلا أو بقيمة مادية أخرى.. ببساطة شديدة وبدون أوراق استدعاء وواسطات ومواعيد طويلة كما تحب محاكمنا.

مدرسي المفضل في المعهد (ألن) ملتزم تماماَ بآداب المشي والتنقل (ماشيا) في المدينة الصغيرة، في يوم من الأيام كان يقف أمام إشارة مشاة وكان الشارع خالياً تماماً من السيارات فقرر المشي وفوق ممر المشاة لكن ذلك تصادف مع مرور دورية الشرطة .. وأيضاً بلا نقاش أو أخذ ورد .. ، منح مخالفة قدرها 90 دولاراً أمريكياً (337 ريال) لأنه مشى وإشارة مرور المشاة كانت حمراء .

بعض من زملائي كان يسكنون في (سكن الطلاب) الخاص بالمعهد .. ومن يعرف تلك الأماكن يعلم بأنها مكان يجمع شبان – من الجنسين – من مختلف دول العالم .. والإزعاج كثير والحفلات أكثر وأكثر، نظام المدينة كان يقضي بضرورة إغلاق أي مكبر صوت أو أي صوت مزعج عند الساعة العاشرة ليلاً ، كان بعض الطلاب يحتلفون بصوت الموسيقى العالية مما أدى إلى أن يقوم الجيران بالاتصال بالشرطة .. وأيضاً في ظرف عشر دقائق وصلت سيارة الشرطة وترجل منها شرطيين .. أعطيا إنذاراً أولياً بضرورة إغلاق أي مكبر للصوت وإلتزام الهدوء لأن الساعة تجاوزت العاشرة .. وعده الطلاب بالالتزام إلا أن ذلك الالتزام لم يستمر سوى 15 دقيقة حتى عاد صوت الموسيقى العالي مرة أخرى .. وببساطة متناهية وبابتسامة لا مثيل لها عاد الشرطي لكن هذه المرة بمخالفة تجاوز 1000 دولار (3750 ريال) مع منح المسؤول عن الحفلة ورقة للحضور إلى محكمة المدينة .

لذلك في بقية اليوم حينما تتأمل الناس هناك ترى الإلتزام المبالغ فيه .. من يدخن يقوم من مكانه في المطعم ويخرج إلى الشارع لأخذ نفس سيجارة .. لأنه يخشى المخالفة ولربما أن ضميره يسبق ذلك حيث أن ضميره يحترم النظام …. ، أحياناً إن تأخرت حتى منتصف الليل .. أفضل أن أخرج عن طريق الشارع الرئيسي الذي يضم الحانات والبارات .. الخ، كنت أضحك مع أصدقائي على السكارى الذين بالكاد يترنحون على الرصيف .. لكنهم حينما تنير إشارة المشاة اللون الأحمر أمامهم .. فجأة .. يقفون بانتظام .. بالفعل موقف مضحك جدا .. لكنه مؤثر ويعكس قوة النظام .

هنا في الرياض ليلة أمس كنت أفكر بأني سأنعم بليلة هانئة لأني كنت مستيقظ منذ الصباح الباكر، عندما دخلت غرفة النوم وأغلقت الأنوار تذكرت أن الأرض التي تقع خلف شقتي يعمل بها عمال بناء على مدى 24 ساعة، تخيلوا .. وأترك لكم فقط إمكانية التخيل .. أقول تخيلوا أن الأرض اجتاحتها عربات الحفر الكبيرة التي تدق الأرض الصلبة لحفرها .. أترك لكم تخيل قوة الصوت لتعرفوا بأننا نعيش في نعيم.