علماء يحبون الضجيج

 

نشأنا وقرأنا أن العالِم كالشمعة يحترق من أجل أن يضيء الطريق للآخرين، وتعلمنا بأن العالِم يكرس جهده وعلمه وطاقته من أجل تقديم شيء للأمة وليس لوطنه فحسب، وأن العالم لا يبحث عن مجدٍ شخصي أو جاه أو تقرب من مسؤول .. بل يعمل ويسهر من أجل العلم أولاً وأخيراً، لذلك قرأنا في كتب التاريخ أن علماء كبار ماتوا وهم فقراء وربما مخلفين ورائهم جيشاً من الدائنين.

هل تتذكرون قصة العالم الذي جرب علاجاً جديداً من خلال حقن ابنه باللقاح؟ لم يَدع لمؤتمر صحفي ولم يصهلل ويهلل ويخاطب الصحف والإذاعات لحضور التجربة، أجراها هو بنفسه في غرفة مظلمة بالكاد ينيرها ضوء خافت من مصباح قديم، كانت التجربة تاريخية بكل ماتحمله الكلمة من معنى وتسجل له انجازاً أفاد البشرية بأجمعها .. أقصد لم يكن الأمر يعني أنه مجرد مشاركة في بحوث جامعية أو كتابة تقارير حول حلول مستقبلية.

أسوق هذه المقدمة وأنا أرى وسائل إعلامنا تتهافت لنشر أخبار طلاب أو أطباء إما يكتبون بحوثاً للرسائل الدكتوارة أو الماجستير، أو يشاركون في بحوث اعتيادية تخص مجال عملهم، من الطبيعي أن يشارك جراح القلب في بحوث معملية لحل إشكالية في عملية الصمام .. ومن الطبيعي أن يكون هناك حلولاً مقترحة اعتيادية لأي بحث، لكن من غير الطبيعي أن نرى تلك البحوث وتلك النتائج تسجل كإنجازات للوطن وتتناقلها الصحف ومواقع الانترنت.

ضجيج .. ضجيج .. ضجيج بكل ماتحمله كلمة ضجيج من معنى، منذ أن بدأنا عالم الابتعاث وأخبار الطلاب المشاركين في بحوث تملأ إعلامنا، ومنهم من تخدمه الظروف ليتحول إلى نجم كبير لا يشق له غبار وبعض الأسماء رشحت صحفياً لمناصب (وزارية)، العلمية أصبحت سهلة جدا بشكل لا يمكن تقبله، خذ مثلاً قصة الباحثة التي تشارك في بحوث اعتيادية بجامعة هارفرد .. لم تقدم أي منتج يغير التاريخ أو حتى يدخل ترشيحا لجائزة نوبل .. مجرد بحوث يقدمها أي باحث في مجال، في النهاية لا تشكل أي إنجاز لأن عدد البحوث التي تنشر سنوياً قد يصل إلى الملايين .. لكن البحث المؤثر هو الذي يفرق، يكفي أن نقول بأن هذه الباحثة أعجبتها الهالة الإعلامية التي تسحر أي شخص .. وأخذت تزيد وتستعرض إمكانياتها لدرجة قولها أنها حفظت القرآن في ستة أشهر لأن الدكتور المشرف انتقد حجابها (بالعربي خذ وخل)، وعالمة أخرى أصبحت تتقصى كل صغيرة وكبيرة يكتب عنها إعلامياً حتى أنها تهاتف الصحف يومياً من أجل المطالبة بحذف تعليق انتقدها نشر ضمن عشرات التعليقات على موضوع تطرق لها .. (بالله في علماء كذا ؟) .

المصيبة التي لا تقل عن ذلك إدعاء البعض حين حصولهم على شهادات خارجية بأنه يصنف (أول سعودي يتمكن من التخرج من هذا التخصص) .. وأصبحت هذه العبارة ترويسة ثابتة تنشر في الصحف لإعطاء إيحاء بأن الخريج (جاب الذيل من ذيله) وهي خدعة تنطلي على كل الصحف تقريباً ولا يكشفها لاحقاً إلا القراء ، مرة قرأت عن شخص حقق شهادة في مجال الكمبيوتر(نسيت بالضبط التخصص) وأتذكر أن أحد القراء شارك بتعليق وضع فيه رابطاً لموقع يخص أرامكو يفيد بأن عدد الحاصلين على هذه الشهادة يتجاوز 700 موظف ! .

هل تتذكرون تدوينة سابقة كتبتها عنوانها (في وطني كن مهايطياً ولا تكن مبدعاً)، أمثال هؤلاء يطبقون هذه النظرية بكل احتراف ..هايط .. أزعج .. افتعل قليلاً من الضجيج حولك .. ستصل إلى المقاعد الأولى، أعلم بأن هناك من سينتقد أسطري هذه من منطلق ( ياخي هذولي ياخذون شهرة ونجومية ولا ياخذها ممثل أو لاعب) ، فأقول له ياصاحبي أولاً مفهوم الضجيج لا يتماشى إطلاقاً مع توجه أي عالم أو باحث ينشد العلم أولاً وأخيراً ، الأمر الآخر هو أن هذه الضجيج والحضور الدائم سيقدم مثل هؤلاء (المفلسين) للصفوف الأمامية ، (مرة جريدة عكاظ سألت إحدى الباحثات : ماذا ستفعلين إن رشحتي لمنصب وزيرة الصحة! ) .

* أستثني من الأسطر أعلاه الباحثة غادة المطيري .. إحقاقاً للحق لم أقرأ لها هياطاً حتى الآن !